من الميادين الحديثة لعلم الاجتماع،حيث دخوله إلى جوهر حياة الإنسان في مختلف تفاصيلها فقد كانت بعض المفاهيم القديمة لا ينظر إليها على إنها جزء من هذا العلم المتجدد، بل كانت تعد هامشية بالقياس إلى أساسيات بحوثه ودراساته، ومن حقول هذا العلم المهملة سابقاً هو حقل (وقت الفراغ) كظاهرة اجتماعية شأنها شأن ظواهر المجتمع الأخرى، ولها تماس بحياة الفرد الاجتماعي كما لغيرها من هذه الظواهر وإذا كان ثمة تحديد لمفهوم الفراغ فانه لا يأتي إلا باقترانه مع العمل، حيث أن الأخير هو العامل الأول الذي يضع الإنسان في موقعه الذي اختارته له شرائع السماء، وقبل الولوج في تفاصيل المصطلح وعلاقته بالإنسان، والتي منها إشباع بعض حاجاته الفطرية والروحية بالذات نلقي نظرة سريعة على مفهوم وقت الفراغ كظاهرة لازمته منذ وجوده على هذه الأرض.
تشير اكثر النصوص التاريخية القديمة، والرسوم التي بقيت من حطام الحضارات المندرسة إلى أن اكثر (الأعمال) التي وصلتنا هي نتاجات فنية تؤكد على أن أصحابها كانوا يمتلكون الكثير من الوقت الفائض ليسهبوا في هذه التفاصيل الدقيقة، وكذلك في الآثار الأدبية التي صورت حياة اكثر الشعوب والأمم فركزت على ما نطلق عليه الآن (وقت الفراغ) بحيث كانت السمة الغالبة لكثير من هذه الآداب والفنون، بينما جاءت الشرائع والديانات لتعطي نوعاً من التوازن في علاقة الإنسان مع وقت الفراغ، وقد أعطى القرآن الكريم وأحاديث النبي(ص) مقاييس عامة لكيفية التصرف بالوقت، وكذلك ميزت النصوص الإسلامية بين الحياة الحقيقية للإنسان وبين حياته ككائن حي آخر، ويقول القرآن الكريم في هذا الصدد ( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر في الأموال) أما في صدد الترويح عن النفس والذي هو أحد مصاديق وقت الفراغ فيقول الرسول(ص) (إن لبدنك عليك حقا) (مجمع الزوائد ج 7ص 239) وواضح أن المقصود من قوله(ص) عدم إجهاد الجسم وإرهاقه بحيث لا يجد ما يعينه على الاستمرار فيه.
وقت الفراغ.. التصنيف والتعريف
حدد علماء الاجتماع وقت الفراغ بخواص معينة واعتبروها أساس تعريف مفهومه منها أن يكون المقصود من الفراغ هو التحرر من العمل بحيث لا يقصد من أشغاله التكسب، وكذلك انعدام الأغراض التجارية أو النفعية والصفة الثالثة هي قابلية الفراغ على إشباع حاجات الفرد التي لا يحققها العمل عادة، وفي هذا الصدد يمكننا أن نعتبر الدعاء المنصوص عليه من قبل أئمة أهل البيت(ع) في الدين الإسلامي نموذجاً لهذا النوع من الإشباع الروحي والنفسي، حيث نجد أن الأئمة(ع) لم يتركوا وقتاً للفراغ يضيع بل أوصلوا اللحظة باللحظة واليوم باليوم.
والواقع إننا لا نمتلك دراسات علمية للفراغ، بل يكاد يكون حقلا مهملاً في حين قطع علماء الاجتماع الغربيون أشواطا طويلة وبالتحديد خلال الخمسين سنة الأخيرة، فعرف الفراغ كنشاط اجتماعي يعتمد على العلاقات الاجتماعية والالتزامات المتبادلة والاتفاقات كما خضع لتنظيمات خاصة أسست عليها نواد وجمعيات أخذت موضوع الترفيه كعنوان رئيسي لعملها ونشاطها.
وقد وضع علماء الاجتماع عدة تعريفات منها ما حدده (ستانلي باركر) في تعريفه للفراغ من خلال ثلاثة طرق هي: إخراج وقت الفراغ البحت بطرح كل نشاطات الإنسان خلال الساعات الأربع والعشرين كساعات العمل والنوم وتناول الطعام وقضاء الحاجات الفسيولوجية وورد هذا التعريف في قاموس علم الاجتماع بأنه (الوقت الفائض بعد خصم الوقت المخصص للعمل والنوم والضرورات الأخرى من الأربع والعشرين ساعة).
وهناك مجموعة أخرى من التعريفات لا تهتم بفكرة الوقت، بل بنوع النشاط الذي يمارسه الإنسان أو الصفة الشخصية لممارسي هذا النشاط، فيعرّف (جوزف بابير) الفراغ بأنه اتجاه عقلي وروحي، غير نابع من ظروف خارجية وليس نتاجاً للوقت أو مرتبط بأوقات الإجازات والعلاقات والعطلات الدورية ويؤكد على أنه موقف عقلي وحالة تتعلق بالروح أساسا وربما نجد بعض المشتركات بين التعريف الأخير. والنظرة الإسلامية لو قورنت ببعض التطبيقات المستفاد منها كأهمية الوقت واغتنامه في العمل الذي يمكن أن يكون كسباً أو تأملاً أو عبادة وهناك نموذج ثالث من التعاريف يحاول الربط بين التعريفين السابقين فتكون صيغته (هو الوقت الذي يتحرر فيه المرء من العمل والواجبات الأخرى والذي يمكن أن يستغل في الاسترخاء والترويح والإنجاز الاجتماعي أو تنمية حاجات شخصية) أو انه (مجموعة من الأعمال التي يقوم بها الفرد والنابعة عن إرادته الشخصية بهدف الراحة أو التسلية أو زيادة المعرفة أو ترقية المواهب الخاصة، أو تنمية المشاركة الإرادية في المجتمع المحلي بعد الانتهاء من مهام المهنة، والأسرة، والواجبات الاجتماعية الأخرى.
وهنا يقع اختلاف وتباين في النظرة إلى الفراغ وهل هو الوقت الحر المطلق أم انه أي فرصة تحرر من أعباء العمل أم هو كل شيء خارج عن الالتزامات والنشاطات الاجتماعية عموماً. كما أن استغلال وقت الفراغ يتبع نوعية العمل وثقافة العامل وكذلك طرق استغلاله بحيث يعود بالنفع على مستثمريه وينظر البعض بما فيهم الاقتصاديون إلى الفراغ على أنه (مشكلة رئيسية في الاقتصادات المتقدمة كما يصفه (كينز). إلا أن الملاحظ أن هناك خلطاً واضحاً بين مفهوم الفراغ كوقت وبينه وبين معنى الترويح والذي هو اقرب إلى معناه الحقيقي، فالترويح أحد ضرورات الاستمرار في العمل، وليس هروباً من أعباء العمل اليومي فقط، وقد يكون الفراغ عاملاً من عوامل تفكك الشخصية وانحلالها، أو عاملاً من عوامل تكاملها خصوصاً في المجتمعات الصناعية الحديثة والذي اصبح فيه عامل الوقت أحد سياط الحضارة المدنية على ظهر الإنسان الذي أرادته هذه الحضارة أن يكون عاملاً منتجاً لا غير.
ويظل التضارب قائماً من خلال تعريفات علماء الاجتماع والفلاسفة لمفهوم الفراغ فيصف (دي مازدييه) في كتابه (سوسيولوجية الفراغ) أن الفراغ هو أسلوب للسلوك يمكن أن يكون متضمناً في أي نشاط نمارسه) بعد عرضه لأنشطة العمل والالتزامات العائلية والالتزامات الاجتماعية ـ الروحية والاجتماعية السياسية ويوافقه في ذلك كل من (ريزمان) والذي يعتبر رائد هذه النظرية التي صاغها في عام 1948م والداعية إلى الخلط بين ممارسة العمل وممارسة بعض هوايات الفراغ أو الترويح، وسار علماء الاجتماع الآخرون على هذا المنهج ومنهم (كابلان) و(ولينسكي) ومؤدى تعريف (دي مازدييه )هو أن الفراغ ( ذلك الوقت الذي يستطيع فيه الفرد أن يحقق إشباعاً لأغراضه وانجازاً لأهدافه الشخصية). بينما يرى الفيلسوف (ماركيوز )واتباعه إنكار وجود نشاطات شخصية للفراغ ويرون أن الفراغ هو ضرب من الاغتراب (ALIENATION) ولهم في ذلك حجة أن إشباع الحاجات الشخصية التي يريد الفرد تحقيقها ما هي إلا حصيلة للقوى المؤثرة في الإنتاج والاستهلاك، وهناك أدلة على صحة هذا الاتجاه، هو أن بعض الطبقات الاجتماعية استطاعت أن تلغي الجزء الأكبر من هذا الوقت الحر وحولته إلى ميدان آخر من ميادين إرضاء الرغبات الشخصية ومثال على ذلك المجتمع الياباني، والذي لا يرى للفراغ معنىً حسب المفاهيم التي يراها الغربيون .